-A +A
سالم الأحمدي ـ المدينة المنورة
كشف عضو مجلس الشورى حمد القاضي في دراسته عن الجوانب الإنسانية عند الدكتور غازي القصيبي في الجزء الأول الذي نشر أمس أهم هذه الجوانب في حياته الإدارية، وهنا يواصل القاضي بقية الجوانب الإنسانية في حياة القصيبي الأدبية والسياسية حيث تحدث عن:

•• الجانب الثقافي وخطابه التسامحي:
• لن أطيل في هذا الجانب وإنما سأمر عليه مرورا سريعا، فقد تحدث الكثير من الكتاب والنقاد عن منجزه الثقافي خلال حياته وبعد رحيله ـــ رحمه الله ـــ والغريب أنه رغم نجاحه وتفانيه في عمله الرسمي إلا أنه أعطى الميدان الثقافي ما لم يعطه آلاف المتفرغين، فقد أصدر (70) كتابا خلال سبعين عاما.. وأنا أرجع منجزه الثقافي أو الإداري أو الإنساني إلى قدرته على إدارة الوقت بشكل عجيب، ونأيه عن المجاملات التي تضيع وقته.. حيث أراد أن تضوع ثواني عمره بعبق العطاء وعطر الإنجاز.. أذكر أنه ظل 8 سنوات يكتب زاويته « صوت الخليج» « بالمجلة العربية» ولا أتذكر أنني أو أحد الزملاء احتجنا لمتابعته، فقد كانت تصل إلينا بانتظام حتى وهو خارج المملكة سفيرا في البحرين ولندن رغم أن هذه الزاوية لم تكن كلاما إنشائيا بل هي تحتاج إلى قراءة أحد الكتب التي صدرت في الخليج وتقديم قراءة بل دراسة متميزة بأسلوبها وطرحها في هذه الزاوية .
وفي فضائه الثقافي تجد الإنسان وتعزيز قيم المحبة، والسلام والتسامح والرحمة هي المفردات الأبرز في خطابه الثقافي سواء كان شعرا أو مقالا أو سردا، أليس هو القائل:
من جرب الحب لم يقدر على حسد
من عانق الحب لم يحقد على أحد
وأمر آخر قد لا يعرفه الكثيرون حتى في الوسط الثقافي ذلك أنه كان ـــ رحمه الله ـــ يقف مع عدد من الأدباء سواء السعوديين أو العرب عندما تمر بهم ظروف يحتاجون فيها إليه.
•• الهاجس الإنساني عندما تقلد وزارة الصحة:
• أذكر عندما تولى ـــ رحمه الله ـــ وزارة الصحة قلت في مقال لي: «إن قائل هذا البيت:
«وإن سهرت مقلة في الظلام
رأيت المروءة أن اسهرا»
هو من تنطبق عليه مواصفات من سيكون وزيرا للصحة فهذا العمل يتعامل مع المرضى ومع الناس في حالات ضعفهم ومرضهم..» وفي وزارة الصحة تحديدا أعطى غازي كل وقته وجهده وعمل على أن يصبغ هذا العمل بالمحتوى الإنساني في كل عمل أنجزه أو قرار أصدره، لقد أخذه هذا العمل عن بيته وأسرته وأطفاله.. وقد جسد ذلك بقصيدته التي تفيض إنسانية ورقة تلك التي أهداها إلى ابنته «يارا» عندما كانت تسألـه بعتاب طفولي: بأنها لا تراه فكان جوابه بهذا الأبيات الأخاذة التي تتوشح بالتضحية:
«أبي! ألا تصحبنا؟ إنني
أود أن تصحبنا... يا أبي!
وانطلقت من فمها آهــــة
حطت على الجرح.. ولم تذهب
وأومضت في عينها دمعة
مالت على الخد ولم تسكب
أهكذا تهجرنا يا أبي
يا أجمل الحلوات.. يا فرحتي
يا نشوتي الخضراء.. يا كوكبي
أبوك في المكتب لمَّا يزل
يهفو إلى الطيب والأطيب
يصنع حلما، خير أحلامه
أن يسعد الأطفال في الملعب
من أجل يارا و رفيقاتها
أولع بالشغل... فلا تغضبي»
لم يكن عمله بوزارة الصحة مقتصرا على إنجاز المشروعات وخلافها بل حفل كثيرا بالجانب الإنساني للمرضى، فطرح فكرة لجان «أصدقاء المرضى» لتقوم بأدوارها الإنسانية لهؤلاء المرضى كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني، كما وضع «كروتا» موقعة باسمه مع دعاء بالشفاء وتعطى لكل مريض يدخل أحد المستشفيات بالمملكة وأمر بوضع الآية الكريمة: «وإذا مرضت فهو يشفينِ» [سورة الشعراء آية 80] في المؤسسات الصحية لتزرع الإيمان والطمأنينة في نفوس المرضى وغيرها من اللمسات الإنسانية التي نشرت عبق الارتياح في وجدانات المرضى وأسهمت في تخفيف أوجاعهم.
•• إنسانيته وتأسيس جمعية الأطفال المعوقين:
• آتي إلى جانب مهم من أعماله الإنسانية الباقية، ذلك هو منجز إنساني كان ـــ رحمه الله ـــ وراءه فكرة وتأسيسا.. ذلكم هو «جمعية الأطفال المعوقين» التي بدأت بالرياض وانتشرت فروعها وأغصانها المورقة بالمملكة ترعى وتحنو على هذه الفئات الغالية وسار على نهجه آخرون في مناطق المملكة في اقتفاء جميل لهذا العمل. لقد جعل المجتمع يقف مع الأجهزة الحكومية بالاحتفاء والرعاية لهذه الفئات علاجا وتدريبا وترفيها ودمجا بالمجتمع، وهاهم «ذوو القدرات الخاصة» ينعمون بخدمات ورعاية مثل هذه المراكز سواء التي أنشأتها الدولة أو التي أقامتها جمعية الأطفال المعوقين وغيرها من الجمعيات المماثلة في المملكة.
•• شمولية غيمته الإنسانية وقصة ترك مكتبه لهدف إنساني:
• كان اهتمام الدكتور غازي بالآخرين لا يتجه فقط إلى المرضى أو المعوقين فقط، بل كانت بوصلته وأمطار غيمته الإنسانية تتوجه نحو كل من يحتاج إلى لمسة إنسانية سواء بالكلمة أو الزيارة أو المادة.. روى لي مدير مكتبه الذي رافقه على مدى 30 عاما الأستاذ هزاع العاصمي عديدا من المواقف الإنسانية للراحل ـــ رحمه الله ـــ ومنها هذا الموقف المؤثر؛ يقول الأستاذ هزاع عندما انتقل من وزارة الصناعة إلى وزارة الصحة أصيب أحد موظفي وزارة الصناعة بفشل كلوي وتم تنويمه بمستشفى الشميسي في الرياض وزار شقيق هذا الزميل الدكتور غازي ونقل لـه أن أخاه رفض
«الغسل الكلوي»، وأن الأطباء يقولون: إذا لم يغسل كليته فسوف يصاب «بتسمم الدم» الذي قد يقضي على حياته خلال مدة وجيزة، فما كان من الدكتور غازي إلا أن ترك مكتبه واجتماعا كان لديه وذهب مع شقيق هذا الزميل وأنا معهم إلى مستشفى الشميسي ودخل على هذا المريض بغرفته، وواساه ودعا لـه ثم ظل وقتا طويلا يقنعه بغسل الكلى، مشيرا إلى أن الله أمر بالعلاج وأن الأطباء أدرى وعليه أن يستجيب لطلبهم، ولم يذهب إلا بعد أن اقتنع، وفعلا بدأ من ذلك اليوم بغسل الكلى، وظل يسأل عنه ويزوره وعندما تبرع لـه أحد أقاربه بكلية سعد وسعى إلى زرعها في أقرب فرصة.. بل ظل يرسل مصروفا شهريا إلى أسرته بسبب مرضه وعجزه عن العمل.
أرأيتم هذا الإنسان كيف يبذل من وقته وجهده ومالـه بل يقدمها على مسؤولياته وصدق مرة ثانية عندما قال:
«وإن سهرت مقلة في الظلام
رأيت المروءة أن اسهرا»
***
إن الجميل أن هذا الحس الإنساني لا يدور في فضاءات معارفه أو دوائر زملائه أو أصدقائه فقط بل هو مطر تنسكب قطراته كما قال في بيته الشعري على كل مقلة سهرت في الظلام.. ولأني رأيت ألا يكون حديثي عن هذا الجانب إنشائيا فقط فإني أحرص على أن أعضده بالوقائع والحقائق.. وأروي هنا واقعة إنسانية عايشتها شخصيا: «لقد كتبت لـه ذات مرة عندما كان وزيرا للصناعة عن امرأة هجرها زوجها بعد ارتباطه بأخرى وحرمها من رؤية أولادها وأحدهم معاق، فضلا عن عدم إنفاقه عليها وعلى أطفاله حتى أصبحت لا تستطيع تأمين الحليب لهم، وما أن وصلته رسالتي وإذا به يتصل بي ليستوفي بعض المعلومات، وبعدها لم يكتف بمساعدة مالية قدمها بل تبنى قضية «معاناتها» بسبب عدم رؤية أولادها فبذل جهده للوصول إلى زوجها القاسي ـــ بكل سرية ـــ ووسط شخصا يعرف هذا الزوج.. ولما لم تنجح هذه الوسائل سأل عن منزله وذهب إليه شخصيا في إحدى حارات الرياض الشعبية ليبين لـه خطأ تصرفه، ويقنعه بجعل الأبناء يرون أمهم.. وتأثر هذا الزوج الذي ظلم امرأته الأولى بهذا الموقف واستجاب لنداء ورغبة وزيارة «الإنسان» غازي القصيبي ـــ رحمه الله ـــ.
•• الدكتور غازي في التعامل الإنساني مع الآخرين:
• يقف قارب رحلتي في فضاء الراحل الإنساني في محطة تعامله مع الآخرين، فقد كان تعاملا رقيقا راقيا وبخاصة مع منهم أقل منه أو من يعملون معه سواء في الجهة التي يرأسها أو في منزله، تصوروا أن عاملا استمر يعمل معه أربعين عاما.. ولو لم يكن الدكتور غازي يمتلك التعامل المشرق والجميل ما استمر معه مثل هذا العامل طوال هذه السنين وحتى رحيله ـــ رحمه الله ـــ .. لقد كان يحفل بهموم من يعملون معه، وبشؤونهم الشخصية تفاعلا ومساعدة لهم من ناحية، ولأنه يعرف ـــ رحمه الله ـــ أثر ذلك على عملهم وإنجازهم.. روى لي أحد المسؤولين لديه أنه لاحظ أن أحد الموظفين قل إنتاجه في الأشهر الأخيرة فما كان من الدكتور غازي إلا أن طلب هذا الموظف إلى مكتبه وجلس يتحدث إليه، ويسألـه عن سبب ضعف نشاطه وإنجازه في الأشهر الأخيرة فلم يستطع الموظف أن يجيب بل أجابت دموعه فتأثر الدكتور غازي كثيرا، ولما هدأ الموظف طلب منه أن يتحدث عن ظروفه فكشف لـه الموظف عن مرض زوجته الصعب وعدم توفر مبلغ لديه لاستكمال علاجها، فما كان من الدكتور غازي إلا أن خفف من ألم هذا الموظف مطمئنا لـه بأن مع العسر يسرا وأن الله هو الشافي أولا، وطمأنه بأنه سيسعى باستكمال علاج زوجته وفعلا بعد أيام جاء الأمر بعلاجها في الخارج، ولم يكتف بهذا بل أعطاه إعانة مالية، فمسح هذا الموقف شجن هذا الموظف.. وكتب الله لزوجته الشفاء وعاد إلى عطائه ونشاطه، ومرة ثالثة ورابعة أعيد هوية غازي الإنسانية:
«وإن سهرت مقلة في الظلام
رأيت المروءة أن اسهرا»
رحمه الله.
•• المستخدم الذي دعاه واحتفى به كوزير:
• موقف آخر يبلور «الحس الإنساني» الذي لا يفارقه مهما نأى وابتعد وبخاصة مع بسطاء الناس.. إن الكثير منا عندما ينتقل إلى عمل آخر ينسى مع الأسف زملاءه.. بل والجهة التي عمل بها لكن غازي القصيبي نمط آخر من الناس.. فهو يحفظ الوفاء للآخرين ويحتفظ بالتواصل معهم سواء كانوا وزراء أو خفراء، أغنياء أو فقراء، وكلاء أو مستخدمين.. وهذه القصة التي سأحكيها ترسخ هذا الجانب، تلك حكايته مع
«مستخدم» في مكتبه بوزارة الصناعة والكهرباء.. وقد روى هذه القصة الشيخ الدكتور عبدالوهاب الطريري، بوصف هذا المستخدم قريبا لـه واسمه جار الله.. يقول الدكتور عبدالوهاب كما نشر في صحيفة الحياة بتاريخ
11/9/1431هـ: «إن الدكتور غازي بعد أن ترك الوزارة وسافر إلى لندن فوجئ قريبي جار الله المستخدم بأن بطاقة دعوة تجيئه من معالي الدكتور غازي القصيبي يدعوه فيها لحضور زواج ابنته «يارا» وعندما حضر للزواج رحب به الدكتور غازي وكأنه أحد زملائه الوزراء.. إنه عمل بسيط لكن كم لـه من دلالـة على سجايا الراحل وإنسانيته رحمه الله».
جانب آخر يجيء في فضاء عالمه الإنساني ألا وهو شيمة التسامح فرغم ما تعرض له من نقد قاس سواء في عمله أو منجزه الثقافي بحق وبغير حق (وهذا هو قدر العظماء)، لم يكن ـــ رحمه الله ـــ يحمل حقدا أو حسدا.. لقد كان صاحب رسالة وقلب ثري.
أذكر أن أحد الكتاب نقد إحدى قصائده نقدا قاسيا.. ولم يحمل عليه بل عندما أحتاج إليه في شأن يهمه وقف معه وساعده وقد كان يردد دائما: «من حق النقاد والقراء أن يقولوا ما يشاؤون».
•• الموقف الإنساني الذي جعل القصيبي عندما يبكي:
• عادة الإنسان رجلا أو امرأة قد يبكي لأمر يخصه، أو عزيز يفتقده.. وهذه رحمة وإنسانية لكن أن يبكي الإنسان من أجل شأن عام ومن أجل آخرين أو ضعفاء أو مرضى فتلك هي قمة الإنسانية والرحمة.
الدكتور غازي القصيبي وأحد من الذين يبكون من أجل غيرهم رغم ما عهد عنه وفيه من قوة وحزم.. روى لي الأستاذ فهيد الشريف أحد زملائه وأصدقائه المقربين أنه رافق الدكتور غازي عندما كان مديرا عاما للشؤون الإدارية والمالية بوزارة الصحة.. رافقه لزيارة مستشفى الولادة والأطفال بالمدينة المنورة وعندما بدأ الجولة وجد غرف المريضات وغرف الأطفال بوضع مزر نظافة وصيانة وخدمات وظل يستمع إلى شكاوى المريضات وبعضهن كن يبكين فما كان من الدكتور غازي ـــ رحمه الله ـــ إلا أن انسكبت الدموع على وجهه ولم يملك أن يرد عليهن.. فجلس في إحدى غرف المستشفى واتخذ على الفور قرارات إدارية عاجلة تتعلق ببعض المسؤولين بالمستشفى ثم طلب سرعة انتقال المريضات والأطفال إلى مستشفى آخر فأجابه مسؤولوا الصحة بالمدينة بأن هناك أرضا انتهت مخططاتها وسوف يبنى عليها مستشفى جديد فأجاب هل تريدوني أن أغادر المستشفى ولم أطمئن على حل سريع لهذا الوضع المزري وأضاف كيف سأرتاح وأنا أتخيل وضعهم ثم سأل عن أي مبنى يمكن أن ينقل إليه المرضى، فذكر لـه أحد الحضور أن هناك مبنى مناسبا تابعا لوزارة الحج والأوقاف والوزارة لا تستخدمه حاليا فما كان منه إلا أن طلب على الفور معالي الشيخ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج والأوقاف السابق ـــ رحمه الله ـــ وبعد السلام عليه قال: إنني سأطلب منك طلبا وأرجو ألا تردني فهو يهمني كثيرا ثم طلب منه المبنى التابع لوزارة الحج ليكون مستشفى مؤقتا للنساء والأطفال بالمدينة حتى ينتهي المبنى الجديد ووافق الشيخ عبدالوهاب وعندها أحسسنا بارتياح كبير بدا على وجه الدكتور غازي وكأن جبلا من هم انزاح عن قلبه وظل ـــ رحمه الله ـــ يتابع انتقال المريضات والأطفال يوميا من مكتبه بالرياض ولم تمض أيام حتى تم نقلهم جميعا.
ورحمك الله عندما قلت:
«وإن سهرت مقلة في الظلام
رأيت المروءة أن اسهرا»
***
•• وبعد:
• ختاما أيها الحبيب الراحل غازي: أودع الحديث عنك ببيتك الذي رثيت به أحد أحبابك:
لو يرد (الزؤام) لانتصب الحب
سياجا فما استطاع الـــزؤام
رحم الله «الإنسان» الدكتور غازي القصيبي رحمة واسعة، وجعل ما أصابه من مرض تكفيرا لسيئاته ورفعا لدرجاته.. لقد خدم دينه وقيادته ووطنه وأبناء وطنه بروح المؤمن، وتفاني المواطن، ورؤية المفكر، ورقة الإنسان، جمعنا الله به جميعا في جنة المأوى.
و.. أيها الحبيب الراحل غازي: طبت حيا وميتا.